كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالبناء للمفعول، أي يوقع الذين كفروا بسبب النسيء في الضلال، أي يوقعهم اللّه في ضلال زيادة على ضلالهم القديم. وقرئ بالبناء للفاعل، أي يضلهم اللّه، يحلّون الشهر المؤخر عاما ويحرّمونه عاما آخر.
ثم قيل إنّ أول من عمل النسيء نعيم بن ثعلبة الكناني وكان مطاعا في قومه الذين كانوا يسألونه أن يؤخّر حرمة الشهر إلى شهر آخر ليغيروا فيه على أعدائهم، فيقول قد فعلت، ثم يعملون ما يشاؤون..
وقوله: {لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ} أي يوافقها في العدد، واللام متعلقة بالفعل الثاني، أو بما دل عليه مجموع الفعلين فيحلوا بهذه المواطأة ما حرمه اللّه من القتال، {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ} أي حسّن الشيطان لهم أعمالهم السيئة، فظنوا ما كان سيئا حسنا {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} أي لا يرشد الضالين الذين يختارون السيئات ويستقبحون الأعمال الصالحة.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}
أفادت إِنَّمَا حصر الصدقات في هذه الأصناف الثمانية، وأنها تصرف إليهم، ولا تصرف إلى غيرهم.
وقد كان لفظ الصدقة في عرف الشرع في صدر الإسلام يشمل الزكاة الواجبة والصدقة المندوبة. قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها} [التوبة: 103] وقال عليه الصلاة والسلام: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة».
وفي كتاب أبي بكر لأنس بن مالك حين وجهه إلى البحرين: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على المسلمين، والتي أمر اللّه تعالى بها رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم.
واتفق العلماء على أن قوله تعالى: {الصَّدَقاتُ} يشمل الزكاة الواجبة. واختلفوا في الصدقة المندوبة، فمنهم من قال بدخولها في لفظ الآية الكريمة، ومنهم من قال: لا تدخل، فمن قال بدخولها يرى أن اللفظ عامّ يتناول كل صدقة، سواء الواجبة والمندوبة، بل إنّ المتبادر من لفظ الصدقة هو المندوبة، فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة فلا أقل من أن تدخل فيه أيضا الصدقة المندوبة، وتكون الفائدة بيان أنّ مصارف جميع الصدقات ليس إلا هؤلاء الأصناف الثمانية.
ومن يرى أن المراد بالصدقات هنا هو الزكاة الواجبة يستدل على ذلك بأمور:
الأول: أن (ال) في الصدقات للعهد الذكري، والمعهود هو الصدقات الواجبة التي أشار اللّه إليها بقوله قبل هذه الآية: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ} [التوبة: 58] والصدقات التي كان قوم من المنافقين يعيبون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيها وفي تقسيمها هي الزكاة الواجبة، فقد روي أنّ بعض المنافقين كان يعيب الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في توزيع الصدقة، ويزعمون أنه يؤثر بها من شاء من أقاربه وأهل مودته، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل فيها، كلّ ذلك كان في الصدقات الواجبة، فلما ورد قوله تعالى عقب ذلك: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ} دلّ على أنّ المراد الصدقات التي سبق الكلام فيها: وهي الصدقات الواجبة.
الثاني: أنّ الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير الأصناف الثمانية باتفاق، مثل بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وتكفين الموتى وتجهيزهم ونحو ذلك، فلو كانت الصدقة المندوبة داخلة في الآية لما جاز صرفها في مثل هذه الوجوه.
الثالث: أن اللّه تعالى جعل للعاملين عليها سهما فيها، ولم يعهد في الشرع نصب عامل لجباية الصدقات المندوبة، فلو كانت الصدقة المندوبة داخلة في الآية لوجب على الإمام أن ينصب العمال لجبايتها حتى يأخذوا سهمهم منها، ولم يقل بذلك أحد.
الرابع: أثبت اللّه هذه الصدقات بلام التمليك للأصنام الثمانية، والصدقات المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة.
وفي الآية جمعان: بالواو وجمع بالصيغة، فالشافعي يبقيها على ظاهرها في الجمعين معا، فيجب عند صرف جميع الصدقات الواجبة سواء الفطرة وزكاة الأموال، إلى ثمانية الأصناف، لأن الآية أضافت جميع الصدقات إليهم بلام التمليك، وشرّكت بينهم بواو التشريك، فدلك على أن الصدقات كلها مملوكة لهم، مشتركة بينهم، فإن كان مفرّق الزكاة هو المالك أو وكيله سقط نصيب العامل، ووجب صرفها إلى الأصناف السبعة بالسوية، لا يرجح صنف على صنف إن وجدوا، وإلا فللموجود منهم، ولا يجوز أن يصرف لأقل من ثلاثة من كل صنف، لأن أقل الجمع ثلاثة. وإن كان مفرقها الإمام أو نائبه وجب استيعاب الأصناف كلها، بهذا قال عكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وداود الظاهري.
وقال الأئمة أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم اللّه: للمالك صرفها إلى صنف واحد، قال أبو حنيفة ومالك: له صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف، واستحب مالك صرفها إلى أمسهم حاجة.
قال إبراهيم النخعي: إن كانت قليلة جاز صرفها إلى صنف، وإلا وجب استيعاب الأصناف.
وما نقل عن الأئمة الثلاثة هو المروي عن عمر وابن عباس وحذيفة والحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشعبي والثوري، واختار جمع من أصحاب الشافعي جواز دفع صدقة الفطر لثلاثة فقراء أو مساكين، بل ذهب الروياني من الشافعية إلى جواز دفع زكاة المال أيضا إلى ثلاثة من أهل السّهمان، قال: وهو الاختيار لتعذر العمل بمذهبنا، ولو كان الشافعي حيّا لأفتانا به.
وحمل الأئمة الثلاثة وموافقوهم الآية الكريمة على التخيير في هذه الأصناف، ومعناها: لا يجوز صرفها لغير هذه الأصناف، وهو فيه مخير. فالآية لبيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا لتعيين الدفع لهم.
ويدلّ له قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها إلى فقرائكم».
فإن عموم ذلك يقتضي جواز دفع جميع الصدقات إلى الفقراء حتى لا يعطى غيرهم، بل ظاهر اللفظ يقتضي إيجاب ذلك، لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «أمرت...».
فدلّ ذلك على جواز الاقتصار على صنف واحد.
وأما دليل جواز الاقتصار على شخص واحد من أحد الأصناف فهو أن الجمع المعرّف بأل حقيقة إما في العهد وإما في الاستغراق. ومجاز في الجنس الصادق بواحد. والحقيقة هنا متعذّرة، لأنّ الاستغراق غير مستقيم، إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير، وهو ظاهر الفساد، وليس هناك معهود ليرتكب العهد. وإذا تعذرت الحقيقة وجب الرجوع إلى المجاز، فيصير المعنى في الآية.
أن جنس الصدقة لجنس الفقير. وجنس الفقير يتحقق بواحد، فيجوز الصرف إلى شخص واحد.
بيان الأصناف الثمانية:
الصنفان الأول والثاني: الفقراء والمساكين قال الإمام الشافعي في حد الفقير: إنه من ليس له مال ولا كسب يقع موقعا من حاجته، والمسكين هو الذي يقدر على ما يقع موقعا من كفايته، إلا أنه لا يكفيه، فالفقير أسوأ حالا من المسكين.
وقال الإمامان أبو حنيفة ومالك: إنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير، والخلاف في ذلك لا يظهر له فائدة في الزكاة، لأنه يجوز عند أبي حنيفة ومالك صرف الزكاة إلى صنف واحد بل إلى شخص واحد من صنف. لكن يظهر للخلاف فائدة في الوصية للفقراء دون المساكين، أو العكس، وفيمن أوصى بألف للفقراء ومئة للمساكين مثلا.
ومحل الخلاف إنما هو عند ذكر اللفظين معا، أو ذكر أحدهما مع نفي الآخر، أما إذا ذكر أحدهما ولم ينف الآخر، كما إذا قال: أوصيت للفقراء بكذا، فلا خلاف في أنه يجوز أن يعطي المساكين، وهذا معنى قول بعضهم: إنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وحجة الشافعي فيما ذهب إليه وجوه:
أولها: أنه تعالى بدأ بذكر الفقراء، وهو جلّ شأنه إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجتهم، وتحصيلا لمصلحتهم، وهذا يدلّ على أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشدّ حاجة، لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم.
ثانيها: أن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره، فعيل بمعنى مفعول، فهو ممنوع من التقلب والكسب، ومعلوم أن لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال.
ثالثها: ما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كان يتعوّذ من الفقر وقد قال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين».
فلو كان المسكين أسوأ حالا لتناقض الحديثان لأنه حينئذ يكون قد تعوذ من الفقر ثم سأل حالا أسوأ منه، أما إذا قلنا إن الفقير أسوأ حالا فلا تناقض البتة. وقد توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يملك أشياء كثيرة، فدل ذلك على أن كونه مسكينا لا ينافي كونه مالكا لبعض الأشياء.
رابعها: قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79]
فقد وصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر، ولم نجد في كتاب اللّه ما يدل على أن الفقير يملك شيئا، فكان الفقير أسوأ حالا من المسكين.
خامسها: نقل الشافعي وابن الأنباري وخلائق من أهل اللغة أن المسكين الذي له ما يأكل، والفقير الذي لا شيء له، وحجة الحنفية وموافقيهم وجوه:
الأول: ما نقل عن الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء ويونس وغيرهم من أهل اللغة أنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير.
والثاني: قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: 16] أي ألصق جلده بالتراب ليواري به جسده، وألصق بطنه به لفرط الجوع، فإنه يدل على غاية الضرر والشدة، ولم يوصف الفقير بذلك.
والثالث: أن المسكين هو الذي يسكن حيث يحل، لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه، وذلك يدل على نهاية الضرر والبؤس.
وإذا تأملت في أدلة الطرفين علمت أن لا مقنع في دليل منها إلا في أدلة النقل عن أهل اللغة، والنقلان متعارضان، وأيّا ما كان الأمر فقد اتفق الرأيان على أن الفقراء والمساكين صنفان. وروي عن أبي يوسف ومحمد أنهما صنف واحد، واختاره الجبائي، ويكون العطف بينهما لاختلاف المفهوم.
وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى لفلان وللفقراء والمساكين، فمن قال: إنهما صنف واحد جعل لفلان نصف الموصى به، ومن قال: إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك.
واقتضى ظاهر الآية جواز دفع الزكاة لمن شمله اسم الفقير والمسكين، سواء في ذلك آل البيت وغيرهم، وسواء الأقارب والأجانب، والمسلمون والكفار، إلا أنّ الأحاديث الصحيحة قيّدت هذا الإطلاق، ففي الصحيحين من رواية ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: أعلمهم أنّ عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فاقتضى ذلك أن الصدقة مقصورة على فقراء المسلمين، فلا يجوز دفع شيء من الزكاة إلى كافر سواء في ذلك الفطرة وزكاة المال.
وحكى النووي في مجموعه عن ابن المنذر أن أبا حنيفة رضي اللّه عنه يجيز دفع الزكاة إلى الكفار.
وكذلك لا يجوز دفعها إلى من تلزم المزكي نفقته من الأقارب والزوجات من سهم الفقراء والمساكين، لأن ذلك إنما جعل للحاجة، ولا حاجة بهم مع وجود النفقة لهم، ولأنه بالدفع إليهم يجلب إلى نفسه نفعا، وهو منع وجوب النفقة عليه.
ولا يجوز دفعها إلى هاشمي باتفاق الأئمة، لما رواه مسلم عن المطلب بن ربيعة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد».
وقال الشافعي: لا يجوز دفعها إلى مطلبي أيضا لما رواه البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ بني هاشم وبني المطلب شيء واحد وشبّك بين أصابعه».
ولأنه حكم واحد يتعلق بذوي القربى، فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي كاستحقاق الخمس.
هذا وقد اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى للفقير والمسكين، فقال الشافعي: يجوز أن يدفع إلى كل منهما ما تزول به حاجته، ولا يزاد على ذلك، سواء صار بذلك مالكا للنصاب أم لا.
وكره أبو حنيفة أن يعطى إنسان من الزكاة مئتي درهم، وأي مقدار أعطيه أجزأ، وأبو يوسف يمنع ما زاد على النصاب.
وأما مالك رضي اللّه عنه فإنه يرد الأمر فيه إلى الاجتهاد.
وقال الثوري: لا يعطى من الزكاة أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما.